07‏/10‏/2011

والهوى سوري (3) تورتة الدم في عيد البنت والأم


من مفارقات القدر أن الصبية السورية (رهف) -الطفلة سابقاً- وأمها (نسيبة) تـأبيان إلا أن يكون يوم ميلاد كل منهما مرتبط بذكرى تمس السوريين والمصريين بل والعرب جميعاً رغم أنه لا يفضل بينهما سوى أسبوع

ولدت الأم في يوم السادس من أكتوبر/تشرين وتحتفل بميلادها في يوم حرب الكرامة التي كشف –ولا يزال- ربيع الثورات العربي الكثير من ورق التوت الذي يغطي من ينسبون أفضالاً لأنفسهم. ففي مصر كشفت الثورة أن الضربة الجوية التي أنهكت الملحنين والمطربين تمجيداً للمخلوع، ليس له فيها إلا مجرد دور من أدوار، وليس لها في الحرب إلا دور من أدوار بعد أن تصورنا جميعاً أنه كان يحارب الصهاينة بمفرده.

وفي سوريا تكشف الثورة الأبية يوماً بعد يوم عن تواطؤ من كان يتباهى بالمشاركة في الحرب حتى أن هناك من يثبت أن الجولان لم تكن لتسقط إلا بفعل خيانة، وليس أدل على ذلك من أن ابنه الهمام لم يوجه رصاصة صوب الجولان بل وجه أرتاله نحو حوران وشقيقاتها.

وولدت البنت في يوم وفاة جمال عبد الناصر.. أختلف معه واتفق .. لكن ما لا يختلف عليه اثنان أنه كان يحب بلاده، ويأمل في وحدة لا يفرقها عدو ولا حاقد.. كان زعيم الممانعة الحقيقية التي احترمها حتى أعداؤه لا الممانعة الكوميدية التي نسمع عنها في الحقبة الأسدية.. يوم وفاته كان اليوم الأسوأ على مصر التي وضعها على خط عودة الكرامة، وسوريا التي حمل أهلها سيارته ابتهاجاً به.. يموت لتبقى ذكراه في القلوب بعد عشرات السنين.

اعتدت لسنوات أن أبعث برسالة معايدة، أو اتصال، أو حتى تحية هنا أو هناك على الإنترنت..

لكنني لم أفعلها هذا العام ... كان الخجل يملؤني؛ كيف يطاوعني قلبي أن أقول لأي منهما: كل سنة وانتي "سالمة" -بحسب اللهجة السورية- وأنا أعرف أنهما محاصرتين في المنزل لا تستطيعان الخروج ولو هذه إلى عملها، وتلك إلى جامعتها في سنتها الأولى..

كيف أقول "سالمة" وقد فقدت هذه الكلمة بفضل نظام الشبيحة وشبيحة النظام أي معنىً لها ؛ فكيف لطفل جعلوا أجراس مدرسته دانات مدافع أن يبقي على مفهوم السلامة. وكيف لمن اصبح اللون الأحمر للدماء الزكية روتيناً يومياً له أن يقتنع أن هناك سلامة من الأساس..

"سالمة" لا معنى لها بالنسبة لكلتيهما؛ فدموع الأم لم تجف لاعتقال شقيقها منذ أيام أثناء عودته من المستشفى لطلب ممرضة لزوجته التي تعاني من آلام المخاض..

والابنة تكفكف دموعها لتستطيع مداعبة المولودة التي لم يكتب لها رؤية والدها حتى الآن . .أعاده الله وجميع المعتقلين سالمين بإذن الله .. وأراهم الله يوماً في الطغاة وجعلهم عبرة لمن يعتبر

منذ كانت طفلة في السابعة -ولا أزال أراها كذلك- وعدت صاحبة عيد الميلاد بأن برنامج زيارة الأسرة لمصر سيكون حافلاً .. وكثيراً ما كان الحديث يدور حول الزيارة التي لم تتم طوال سنوات، وكان حديث المتلهفة على زيارة بلد لطالما سمعت وشاهدت عنه.

وعقب الثورة زاد شوقها لزيارة ميدان التحرير .. الرمز المصري الأول منذ انطلاق صوت الشعب.. كانت زاهدة في التفكير بأي شأن يمس السياسة من بعيد أو قريب. وكنت أمازحها بقولي إنها تخشى أن أكون من الذين "خطهم حلو" كتبة التقارير الأمنية. لم تكن تدري أن الأيام حبلى بالكثير.

بعد خروج المارد السوري من القمقم اتصلت للاطمئنان على امتحاناتها لأن حرم الجامعة كان المكان الوحيد بمدينتها الذي توجد به تغطية لشبكات الموبايل. وجدت إنسانة جديدة؛ لا الصوت هو الصوت، ولا النبرة هي النبرة، ولا الكلام هو الكلام

وجدتها تقول من بين دموعها: "لم أكن أعرف أنني أحب سوريا بهذه الدرجة، كثيراً ما تمنيت أن أخرج منها ربما بلا عودة.. ولكن اليوم لا" وأردفتها بعبارة سمعتها من كل السوريين الذين أعرفهم "دمي مو أغلى من دمهن"

لم أستطع الرد بحرف واحد؛ فأمامي يولد مشروع عزة وحرية عجل بمخاضه وحشية وغباء وظلم نظام لم يتبق من عمره إلا أقل القليل. لم أتعجب حين وجدت صوتها يرتفع بدعاء على الطغاة غير مبالية بمن حولها أو بمن يستلقي في الموبايل في ظل نظام يحكم بالحديد والنار.

في مرة تالية سألتني ببراءة: "برأيك الأمر بيطول؟" قلتلها إنني أكبر المتفائلين لأنني كنت صاحب عقيدة أن النظام التونسي هو آخر من قد يتعرض لثورة أو حتى انقلاب، وخيب الله اعتقادي. ثم قلت كما قالوا إن "مصر ليست تونس" ليجعلني الله أعيش لأرى الفرعون وزبانيته خلف القضبان.. قلت لها إنه رغم كل الظروف وتواطؤ المتواطئين ودعم الداعمين تبقى يد الله فوق أيديهم..

رغم التفاؤل لم أستطع أن أتصل معايداً بأعياد ميلاد يحتفل معهم بشار وأعوانه بتقديم (تورتة دم) وتحل الرصاصات محل الشموع. وهي تختلف عن كعكة الدم التي يصنعها اليهود طبقاً لموروثاتهم الفاسدة التي كشف عنها اختفاء قس مسيحي في دمشق عام 1887. كعكة بشار لا تقبل بأقل من دماء آلاف الشهداء. ولكن يبقى الدم السوري الطاهر بحراً هادراً يغرقهم جميعاً بإذن الله.

أدعو الله أن أعايد قريباً لكل السوريين وليس لأسرة واحدة بمناسبة ميلاد عهد جديد بإذن الله، وميلاد حرية طال انتظارها.