29‏/04‏/2010

خواطر بلاد الحرمين (2)









(إن الإيمان ليأرز -أي يعود- إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ) حديث مكتوب على مدخل الروضة



كتب ميلتون عن الفردوس المفقود Paradise Lost .. ودوماً أصف نفسي بأني الباحث عن المدينة الفاضلة Utopia Seeker تلك المدينة التي تجمع الفضائل وتنبذ ما سواها ..

والآن .. ومن كل قلبي أقول أنني وجدت تلك المدينة .. وجدتها في المدينة الوحيدة في العالم التي يكفي تعريفها بمجرد كلمة "المدينة" .. مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم

فليصف من يشاء الأمر بالدروشة أو أية صفة أخرى .. كلٌ حر في رأيه وتصوره.. وأنا حر فيما أحسست به والذي –أقسم بالله- فشلت في التعبير عنه وكان لساني ينعقد عندما أتكلم عن عن هذا الموضوع مع أي شخص في الفترة الماضية.. مسكينة الحروف والكلمات أحياناً نحملها فوق ما تحتمل.. فأين لها بوصف ما لا يوصف ..



المدينة.. ذلك المكان الذي قال عنه من لا ينطق عن الهوى أن الإيمان يعود إليها كما تعود الحية إلى جحرها .. هل هناك مدينة فاضلة من مدن الفلاسفة كلهم يسكنها الإيمان؟!!!

إن المدينة لتنفث خبثها.. يا الله !! هل يوجد مكان في تصور أي مخلوق لا يقبل بوجود من تتوافر فيه شروط لطالما ذكرها الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم..

الأرض التي شهدت بناء الإسلام ديناً ودولة ..
الأرض التي شهدت أفراح واتراح من حملوا مهمة نشر الدين على أكتافهم تحت لواء القائد الأعظم عليه السلام.. الارض التي رسمت أجمل صور الحب والإيثار والتضحية والصدق وكل الصفات التي حفي الأدباء والفلاسفة بحثاً عنها وما زادت عن أسطر في كتاباتهم..

تلك الأرض لا تقبل بوجود من يكون نشازاً عن تلك السيمفونية الفريدة .. لا مكان فيها لغير الصالحين
وكيف لا يكون هذا وأهلها هم من جاور رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً .. ويجاور أحفادهم جسده الطاهر تحت الثرى إلى أن تقوم الساعة..

((من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشهد لمن مات بها ))

((اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا ))

المدينة تكفل الله تعالى بمن يعادي أهلها (( ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء، إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء)) رواه مسلم


زرت المدينة المنورة ورأيت كما رأى غيري أن مجرد دخولها كفيل بانشراح الصدر بصورة يعرفها جيداً من ذهب محملاً بهموم أو ذهن مشغول أو ما شابه ذلك

مجرد دخول المدينة يشعر المرء أن هناك من انتزع كل هذا من صدره ووضع مكانه سكينة وطمأنينة بل وبشاشة لم يكن المرء يعهدها في نفسه لأسباب تخصه..

رأيت بعض الجنسيات يأبى أهلها إلا أن يمشون حفاة خشية أن توافق خطواتهم خطوات خير البشر أو احد أصحابه في مدينة الخير..

ما أن تمشي في شوارع المدينة حتى وتلحظ مسحة من الهدوء والسماحة على وجوه كل من تقابل سواء كان من أهلها أو من الضيوف

وأقسم بالله أنني لاحظت –ولعلي مخطىء- أن العمال الآسيويين في المدينة اكثر بشاشة بصورة ملحوظة .. ربما اكتسوا بسمة من سمات أهل طيبة الطيبة..

وجدت حباً في عيون العمال المكلفين بترتيب المصاحف في الأعمدة .. يحنو على المصحف كأنه قطعة من البلور يخشى أن تنكسر..


استوقفني مشهد أحد هؤلاء العمال وقف لالتقاط شيء .. نظرت فلم أرى شيئاً ، وبتدقيق النظر وجدت \"ذرّة\" من منديل ورقي لا تكاد ترى بالعين..

مع الازدحام يكون البعض متعجلاً وربما يعطل عمل هؤلاء العمال على اختلاف تخصصاتهم .. ولا يزيد الواحد منهم إلا أن يرسم ابتسامة حنون على شفتيه وهزة رأس خفيفة بأن شيئاً لم يحدث..

هؤلاء من أتوا من أقصى العالم للعمل وحسب في المدينة .. ورغم عملهم الشاق تجد تلك السماحة.. فماذا عن أهلها.. كيف يكون من تربى ونشأ وعاش وربما يموت في تلك المدينة الطيبة..

رأيت بعضهم أثناء تفطير الصائمين يومي الاثنين والخميس.. يصطحب الواحد الشباب والأطفال من الأسرة للمساعدة.. لم تكن المسألة مجرد تمرات تلقى إلى الصائم فما أكثر من يقوم بأكثر من هذا في كل العالم.. بل كانت هدية محب لمن أحب.. وكيف لا وهم من دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبفرض أن هناك من يشذ عن المسلك الطيب لأهل طيبة فهؤلاء توعدهم أطهر من سكن المدينة عليه السلام
((من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ))

في مقرأة للقرآن الكريم بالمسجد النبوي تصادف أن كانت المجموعة مكونة من أطفال.. ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. أي جمال وأية روحانية تطوف على المكان وتثبت لكل ذي عينين أن الخير هنا ومن هنا ينطلق ..




س مجرد حفظ القرآن أو التمكن في التلاوة فحسب بل جمال التربية الذي يتضح من أخلاق ظهرت وأظهرت معدن أهل المكان: يقوم الصغار ليملأوا أكواباً من ماء زمزم ويضعونها وسط الحلقة.. ثم يحضرون المصاحف والحوامل بعدد الحضور من الصغار أو الضيوف الذين يجلسون في الحلقة..

وبعد الانتهاء من القراءة يطوف أحدهم بالتمر وآخر بماء زمزم وثالث بفناجين القهوة على الحضور..
ثم دقائق من الحديث والدعابات اللطيفة بين الشيخ والكبار من ناحية والصغار من ناحية يتضح فيها أدب يتمناه الجميع في أبنائهم.. وأية قدوة أفضل من أهل الطيبة.

بحكم مولدي بالقرب من منطقة سياحية رأيت كيف أن الكثيرين أخذوا من أهالي تلك المدن أخذوا السيء من أخلاق السياح الذين يزورزن مدنهم.. في المدينة رأيت العكس تماماً: كيف أن الزوار من كل بقاع العالم يتحلون خلال أيام قليلة ببعض سمات أهل طيبة.. أما من لا يقدر له الله أن يفعل فبالتأكيد هو الخاسر الأكبر .

أحياناً كنت أغلق عيني وأزيل المباني وأرجع بالسنين لأتخيل كيف أن هذه البقعة أو تلك حولي قد شهدت بيعة ما أو مجلس حرب للإعداد لغزوة ما.. أو بشارة لصحابي.. أو مكان سقطت فيه دمعة فقير أو ضعيف حزناً ألا يجد ما يخرج به للجهاد.. أو اسطوانة أبي لبابة وكيف أنه ربط نفسه بها منتظراً أمر الله وحتى بعد ان جاءته البشارة رفض إلا أن يفكه رسول الله عليه السلام . وهناك كان يجلس أهل الصفة؛ كنت أتخيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً إليهم هاشاً باشاً يلاطف أبي هريرة ومن معه مقدماً لهم الطعام..



حاولت تخيل اللحظات الأخيرة ورسول الله صلي الله عليه وسلم يطل على المصلين من حجرة عائشة آمراً أبي بكر بالإمامة.. وهنا يتوقف التخيل حيث يتوقف التفكير .


المرة الأولى التي صليت فيها في الروضة لم أدر ما قرأت فيها ولا ما قلت فالموقف كان جد كبير بالنسبة لعبد ضعيف خطاء: أصلي في مكان من الجنة عن يميني منبر رسول الله صلي الله عليه وسلم وأمامي محرابه وعلى يساري.. على يساري يرقد جسده الطاهر.. أية رهبة وأية كلمات تصف هذا الشعور..





بعد ذلك كنت أتحين الأوقات التي لا يسبب فيها تواجدي سلباً لحق مسلم في الصلاة بها مثل الوقت بعد العصر والفجر حيث الصلاة مكروهة فلن يضايق أحد تواجدي بها مهما طال الوقت لأن المفترض أن أحداً لن يأتي للصلاة.. وكان القرآن والدعاء هما زادي في تلك الفترة.. وبين الحين والحين أجد نفسي أنظر يساراً وتتعلق عيناي بالجدار: أهنا على بعد خطوات مني يرقد خير البشر.. يالخسراني إن لم يستجب لي ربي وأنا في أحد أكثر الأماكن قدسية.



يبدأ الازدحام فأجد أنه من الأفضل أن أترك المكان لغيري ليدخل روضة الجنة على الأرض.. وكان يثلج صدري ابتسامة ودعاء بلغة غالباً لا أعرفها و \"طبطبة\" رقيقة على يدي أو كتفي من هذا الذي أشرت إليه أن يأتي ليأخذ مكاني.

كان يضايقني جداً الذين يبدون كما لو أن في جيوبهم عقود تملك للبقعة التي يجلسون فيها.. جادلت أحدهم بأنه ربما يصلي ألف ركعة لا تقبل منه بسبب أنانيته، وأن أحدنا لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وفي الغالب لا تجد آذاناً مصغية رغم عبارات التبرم من الواقفين في انتظار ركعتين ودعاء.

وجدت دموعي تنهمر فرحاً وشوقاً عندما أخبرتني أختى أنهم أخلوا الروضة من النساء قبل الموعد لأن سيدة ماتت أثناء صلاتها بها.. أي خير نالته هذه السيدة وأية فرحة يفرحها اهلها .. المرء يبعث على ما يموت عليه .. وهي تبعث من الجنة.. لكم أغبط تلك السيدة وأتمنى أن أكون في مكانها.

في تلك الفترة كنت أتمنى أن يقبضني الله .. لم أفكر كما كنت أفكر من قبل: هل أنا مستعد .. من داخلي كنت أشعر بسعادة كبيرة لمجرد التفكير .. وكنت على يقين أن ربي لن يخذل يقيني في رحمته

تركت المدينة بجسدي .. ولكنها تأبى أن تغادر قلبي

كان من دعائي المتكرر: اللهم ارزقني عيشة وميتة في مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق